المادة    
يقول الشيخ: (وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها، فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان، لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: [الغنى والفقر مطيتان، لا أبالي أيهما ركبت].
والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: (( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ))[الفجر:15] الآية، فإن استويا -الفقير الصابر، والغني الشاكر- في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر).
(ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر وهو: أن الإيمان نصف صبر، ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر، وفرعاً من الشكر، وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً منفقاً، متصدقاً، باذلاً ماله في وجوه القرب، شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله، ولأداء العبادات، صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما، وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم.
ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافىً شاكر، أو مريض صابر، أو مطاع شاكر، أو مهان صابر، أو آمن شاكر، أو خائف صابر؟ ونحو ذلك) انتهى كلام الشيخ.
ويظهر أنه ليس في كلام الشيخ رحمه الله شيء جديد يخرج عما في كلام شيخ الإسلام ، بل إنه لخص كلامه وأوجزه، فهذه هي القاعدة العامة للتفضيل، ثم ما هو منشأ ذلك، والقضية الأخيرة هي: قضية التجريد، أي: أن ينظر إلى الغني مجرداً، وينظر إلى الفقير من حيث فقره، وقلنا: إنه لا الغني ولا الفقير، ولا الإمام ولا المأموم، ولا الأمير ولا المأمور، ولا شيء من ذلك يجرد مطلقاً، ويفضل مطلقاً، بل قد يكون أميراً وهو أفضل، وقد يكون مأموراً وهو أفضل، وقد يكون إماماً وهو أفضل، وقد يكون مأموماً وهو أفضل، وقد يكون فقيراً وهو أفضل، وقد يكون غنياً وهو أفضل، وقد يكون مسافراً وهو أفضل، وقد يكون مقيماً وهو أفضل، وقد يكون صحيحاً وهو أفضل من المريض، وقد يكون مريضاً وهو أفضل من الصحيح، فالعبرة بالأحوال والحقائق المضافة إليه لا بهذا التجريد الذي قد يفهم.
وأظن أن المسألة اتضحت إن شاء الله، وقد ألمحنا أن هذه المسألة قيمتها وفائدتها -مع ما أخذنا فيها من العبر عن حال الناس؛ وهو حال عام لا يخرج عنه أحد من الغنى أو الفقر- أننا نأخذ منها قاعدة عامة في التفاضل بحسب الألوان، أو القوميات، أو الجنسيات، أو الأحوال، أو المهن، أو الحرف، أو ما أشبه ذلك، وكيف نفاضل بين أمور قد تشتبه علينا شرعاً.
وأوضح مثال لهذا الاشتباه والاختلاف في هذه المسألة: مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر، وكيف أنه بإمكاننا أن نجمع وجهات النظر جميعاً، وأن نأخذ ما عند هؤلاء من حق، وما عند هؤلاء من حق في أي مسألة من هذه المسائل، ولو أخذنا بأحد طرفي الخلاف فيها لكنا مخطئين.
نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يرزقنا جميعاً الغنى والشكر، وأن يجيرنا وإياكم من الكفر والفقر؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.